أفيقوا أيها المتكبرون .. بقلم فضيلة الشيخ حسين وهدان
نبي الرحمة دوت كوم
الحمد لله الكبير المتعال ، المتفرد بالجلال ، والمنعوت بصفات الكمال ، سبحانه ، العز إزاره والكبرياء رداؤه ، ملك الرقاب بالفضل الجميل ، وأغدق على الخلق من فيض العطاء الجزيل ، فله الحمد على آلائه ولطفه ، وله الشكر على بره ورحمته.
وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له الملك الحق المبين .
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه ، خير الخلق ديناً وأحسنهم أخلاقاً ، اللهم صل وسلم وبارك عله وعلى آ له وصحبه أجمعين .
أما بعد :
* فالكبرُ داءٌ من أشرسِ الأمراض الإجتماعية التي تقوّض بنيان المجتمع ، وتمحق الأجور والحسنات ، وتنذر المستكبرين بالسقوط من عين الله والناس ، لذلك فهم في أمسِّ الحاجة إلى جرعاتٍ من الدواء الناجع الذي يذهب هذا الطاعون المهلك من نفوسهم ولو كان مُرّأً، ويقودهم إلى بركات التواضع ولو قسراً، حتى يقيموا جسور الحب الصادق والودِّ الحقيقيِّ مع خلق الله .
والكبر كما قيل عنه : رؤية النفس فوق الغير في صفات الكمال ، وهو عبارة عن شعورٍ داخلي مخادعٍ لصاحبه يملؤه بالإستعلاء على الناس ، وبذرته في القلب كما قال الله تعالى { إن في صدوهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه ... } ( غافر 56) . وأشمل ما عُرف به هو ما جاء في الحديث { ... بطر ُالحقِّ وغَمْطُ الناس ...} ( مسلم في المسند الصحيح 91 بإسنادٍ صحيح ) ، أي رفض الحق واحتقار الخلق .
***
ذم الكبر
إن الكبر هو أول ذنبٍ عُصِيَ به الله تعالى في الأرض ، وذلك لما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر ، قال تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } ( البقرة 34 ) وقد كان قياسه فاسداً لما أجاب ربه بعد أن سأله سبحانه عن سبب إبائه :{ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرتََ أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نارِ وخلقته من طين}( ص 75 -76) ، فالمتكبرون يظنون – جهلاً – أنهم من الناس أفضل وأعز وأكرم كما قاس الملعون إبليس ، لظنه أن عنصر النار أشرف من الطين ، فيدفعهم ذلك إلى ظن الرفعة والتميز مرتكزين إلى نسب أو منصبٍ أو مال ، وذلك وهمٌ كبيرٌ ، فالأفضلية للدين والتقوى .
***
والله تعالى لا يحب العبد المتكبر : { إنه لا يحب المستكبرين } ( النحل 23) ، ومن ثَمَّ لن تصيبَ أنوارُ الهدايةِ قلبَه فيُحرمَ التوفيق :{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ... }( الأعراف 146) حتى يصل به الأمر إلى أن يختم الله تعالى على قلبه بخاتم ِالطردِ والإِبعادِ :{ كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر ٍ جبارٍ }( غافر 35).
والمتكبرون محرومون من دخول الجنة ، ففي الحديث : { لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر } (سبق تخريجه ) ، بل إن الوعيد يسبقهم في آخرتهم بالإهانة والخزي والصغار معاملًةً لهم بضدِّ قصدهم ، فعن عمرو بن شعيب عن جده – رضي الله تعالى عن الجميع – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :{ يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يسمى : بولس تعلوهم نار الأنيار،يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال }( سنن الترمذي2492 وقال :حديث حسنٌ صحيح ) فأيُّ قدر أحقر من ذلك لمن يريد أن يعتبر ؟
***
والمتكبرون يرثون خزايا من سبقهم ، فهم أسوأ أخلافٍ لأسلافٍ ، لأنهم جعلوا الذين لعنهم الله هم قدواتهم الماثلة دائما في مخيلاتهم ومنهم :
الفرعون الغاشم المختال الذي ملأ الأرض كبراً بمواقفه وتصريحاته ، وأوفى دليلٍ هو قوله تعالى :{ ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } ( الزخرف51- 52) ، وقال الله تعالى :{ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } ( القصص 39 ) .. ولا جرم ..كان النتيجة أنه مات بعد أن أدركه الغرق هو ومن معه !! .. { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا يُنصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة هم من المقبوحين } ( القصص 40 – 42 ) .
ومنهم قارون الذي صمَّ الغنى سمعَه عن الإصغاء للهدي الإلهي وعن قول العقلاء له من قومه {... لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } ( القصص 76) وملأ الكبر جنانه فصرح لقومه بإرهاصات الهلاك :{ قال إنما أوتيته على علم عندي ...} ( القصص 78 ) ، والنتيجة كما قال الله تعالى { فخسفنا به وبداره الأرض ...} ( القصص 81) .
ومنهم قوم عادٍ الذين لجُّوا في طغيان الصد عن الهُدى بسبب الكبر الذي كان يملأ جوانحهم ،قال الله تعالى :{ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وكانوا بآياتنا يجحدون } ( فصلت 15 ) ،وقد أبادهم الله تعالى بعد عتوِّهم وكفرهم : { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيامٍ نحساتٍ لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون } ( فصلت 16) ، و لا شك أن الكبر كان سبب الهلاك ولذلك كان العقاب أليما ، وقد خلّفهم عبرةً للمتكبرين :{ فترى القوم فيه صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية * فهل ترى لهم من باقية } ؟( الحاقة 7-8 ).
ومنهم صناديد قريش الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عيه وسلم أن يخصص للكبراء مجلساً وللفقراء مجلساً يجالسهم فيه منعاً من التلاقي بين الفريقين ، وذلك بسبب كبر نفوسهم ، فعن خبابٍ رضي الله تعالى عنه قال :{ جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري . فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب . قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين . فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم . فأتوه فخلوا به وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا ، تعرف لنا به العرب فضلنا . فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد . فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك . فإذا نحن فرغنا ، فاقعد معهم إن شئت . قال : نعم . قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا . قال ، فدعا بصحيفة . ودعا عليا ليكتب ، ونحن قعود في ناحية فنزل جبرائيل عليه السلام فقال : [ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ما عليك من حسابهم من شيء . وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم فتكون من الظالمين] } ( الأنعام 53 ) ( الألباني في صحيح ابن ماجة 3346 بسندٍ صحيح ).
ومنهم ملك غسان جبلة بن الأيهم الذي منعه الكبر من الثبات على الإسلام بعد أن دخل فيه ،[ روى ابن الكلبي وغيره : أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة ، وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه فأذن له، فركب في خلق كثير من قومه ، قيل: مائة وخمسين راكبا ، فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه ، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة ، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل.
ومن الناس من يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر فاعترف جبلة ، فقال له عمر: أقدته منك؟ فقال: كيف، وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى. فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك ، فقال: إذاً أتنصر. فقال: إن تنصرت ضربت عنقك ،فلما رأى الحدَّ قال: سأنظر في أمري هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه فسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم ]( الإمام ابن كثير - البداية والنهاية / جـ8 نسخة اليكترونية على المكتبة الحرة ).
فقد أعماه كبره عن رؤية الناس في عينيه إلا صٍغَاراً، وكذلك كان أسلافه المتضلعين كبراً وبطراً .. وهكذا يفعل الكبر بأهله ، وكلُّ من آنس التكبر بين جوانحه فهم قدوته وهو يسير في طريق الهلاك ومصيره يقترن بوجوه شبه كثيرة مع مصائرهم الغابر ة .
*****