مهنا الحبيل
لم يكن الجزء الرئيس من مشهد المجازر الدموية التي ارتكبتها حكومة بكين مع مليشيات الهان في أورنشي، عاصمة تركستان الشرقية، محصورًا في وحشية، وفظائعية القتل والتصفية المباشرة للمعتقلين الإيغور المسلمين في الأحداث الأخيرة، وهي صورة أفزع العالمَ الجزءُ الذي وصل إلى الإعلام منها , وكان الجزء الأكبر حتى كتابة هذه السطور مستترًا خلف السور الإرهابي الكبير الذي فرضته وحشية السلطات الصينية في العهد الشيوعي، وإن كانت قد ورثتها في الأصل منذ العهد الإمبراطوري وقبل الثورة الماوية.
إنما أصل القصة وجذرها الرئيس في أنَّ هذا القطر كان مستقلًا عن سلطات بكين، وشنَّت عليه الصين حروبًا متتالية بعد أن دخلت حدوده وباشرت خلالها عمليات تصفية تاريخية لإنسان الإيغور في حِقَبٍ متعددة، حتى وصلت إلى إخماد حركة التحرر الإسلامية الوطنية في تركستان في العهد الشيوعي القائم، وترتب عليها هجرات عدة من التركستانيين إلى أقطار عربية وإسلامية؛ نجاةً من تلك العمليات الإرهابية المتتالية في تلك الحِقب التي لم تكن هناك أي آلة إعلامية تَرْصُدُهَا أو تنقلها سوى أخبار بدائية بسيطة استطاعت بكين أن تُخفي وراءها كمًّا هائلًا شكَّل أبرز حروب الإبادة في العهد الأخير لآسيا.
سرُّ الحرب الوحشية
وأما الجزء الثاني المهم للغاية والذي حاولت سلطات بكين أن تُخْفِيَهُ وتضلِّلَ الرأيَ العام الدولي والإسلامي حوله هو أنَّ الأحداث لم تكن جزءًا من حركة تحريك جديدة للشعب المقموع في تركستان، وهنا استند إلى شهادات مباشرة من بعض السياح العرب الذين زاروا أورونشي قبيل الأحداث للتطبُّب والعلاج؛ حيث أكدوا بالقطع أنه لم تكن هناك مؤشرات وهم يتنقَّلون في أحياء الإيغور لأي حِرَاك شعبي أو ثقافي نحو تجديد مطالب الاستقلال, وإن كانت القضية عامرة في نفوس الشعب بحكم الاستحقاق التاريخي القطعي لشعب تركستان الشرقية, لكن ما رصده السُيَّاح العرب هو حالة من البؤس والإحباط والبرنامج المتواصل، والمتطرف في حركة تهميش شعب الإيغور وحركة التوطين الكبيرة للهان المُسْتَقْدَمِين من خارج تركستان، مع عزْلٍ تعليميٍّ واقتصاديٍّ استئصاليٍّ وتهميش اجتماعي ضخم في مشروع متكامل للتهجير الكامل، وحصر ما تبقَّى من الإيغور في كانتونات صغيرة في القرى وأحياء أورونشي والمدن القديمة؛ يشتغلون في الحِرَف اليدوية وبعض التراث الذي يحوّلهم إلى نوع من الركن السياحي لعهد كان قائمًا في تركستان الشرقية لا أكثر، مع تسارُع عمليات التهجير من خارج تركستان من الهان، وخفض نسبة سُكَّانِهِ الأصليين ونزْع مواردهم ومنْعِهم من ممارسة أي تجارة أو حركة اقتصادية ذات مورد فعَّال في أورونشي.
تفجير الصَّاعِق:
ومع كل ذلك الاضطهاد القمعي التاريخي؛ فإنَّ حركة المواجهات كانت بسبب عملية قتل عامِلَين في مصنع بعد برنامج ممارسات هائلة من الهان على الشعب التركستاني؛ بدعم مباشر من السلطات الرسمية وعملائها من ذوي الأصول المسلمة، وهذه العملية التي جرت في إحدى المصانع لعاملَيْن ايغوريَّيْن مسلمين تعاملت معها السلطات بدمٍ بارد انتهى إلى هذه التظاهرات والاحتجاجات الطبيعية والتلقائية، والتي واجهتها بكين بكل وحشية وإرهاب , وأما الحديث عن علاقة مجلس الإيغور العالمي بالأحداث فهو نوع من التضليل مَارَسَتْهُ بكين؛ إذ أن التغطية الإعلامية للمجلس في واشنطن كانت تحصيل حاصل بسبب توحُّدهم مع انتمائهم القومي، ولم يكن ضمن برنامج أشعل مواجهات أورونشي، بغضِّ النظر عن قضية الاستثمارات الغربية للأحداث وموازنات واشنطن، فهذا لا يلغي أنَّ أصل القضية شعبٌ تجري عليه عملية تهجير وتهميش وإبادة منظمة.
بكينُ إِذْ تُعلن الحربَ على المسلمين:
وكان حجم الاندفاع من سلطات بكين والحزب الشيوعي المحلي قد تجاوز كلَّ تقدير في معالجة المسألة، فاستهداف المظاهرات في الشوارع أعقبها منعٌ للصلاة، في تحدٍّ تاريخي لمشاعر الشعب التركستاني وانتمائه الإسلامي، خاصة بعد ورُود أنباء عن تصفية السجناء الإيغوريين المسلمين، بل وتهديد تركيا والعالم الإسلامي من مجرَّد التضامن مع ضحايا المحرقة الصينية في أورونشي , والغريب أنَّ هذا الموقف المعلَن من سلطات بكين يناقض الموقف الشهير في التاريخ الإسلامي لإمبراطور الصين الذي أرسل موافقته على مهادنة المسلمين لخالد بن الوليد، وقال كلمته المشهورة.
وهنا يبرز بلا شك، الموقف الإسلامي الضعيف والمتهتِّك، بل الشريك على المستوى الرسمي بغالبيته في كثير من قضايا الحروب على المسلمين، ودعمهم للعدو كما هو أنموذج محرقة غزَّة, لكن حسابات المواجهة لن تكون بالموقف التركي اللافت لرئيس الوزراء أردوجان، والذي أسمع العالم خطابًا مختلفًا لم يَعْهَدُوهُ من عقود، ولا بالميزان الاقتصادي الذي لم يُطبَّق على مَنْ هو أكثرُ جُرْمًا منها كَتَلِّ أبيب وواشنطن , إنما القضية الشائكة لبكين حين أعلنت رسميًّا حربَها على المسلمين أن هذا الإعلان سيشكِّل دائرة نهوض واستفزاز لقُوًى في المنطقة تتشكل كحركة ثورة جديدة للتحرر الوطني، وأيضًا الاصطدام بفعاليات وتشكيلات سياسية وعسكرية عالمية في مواقع عدة قررت بكين التطوع لمواجهتها راغبةً بعد أن نقضت حكمة الإمبراطور القديم.
وهذه النتائج المُستقبليَّة لن تُغيِّرَ مشهد القمع وخضوع الشارع المتوقَّع سريعًا في أورونشي في مقابل الإرهاب التاريخي للحزب الشيوعي وسلطات بكين, لكنها ستكْمُنُ في غدٍ مُستتر لم تحسب له بكين حسابًا، وهي اليوم تسخر من أشلاء المسلمين أن تعود لتذكِّرَهَا بدماء الإيغوريين، وطيور أورونشي تعزف لحنًا لا تفقهه جيوش الصين، لكنَّها وهي تدمع عينُها لركام الضحايا تقول في قصيدة تغريدها: موعدنا غدًا لثأركم، وإن غدًا لناظره لقريب.